الأحد، 15 يناير 2017

تحقيق المخطوط وخطواته المنهجية


تحقيق المخطوط وخطواته

تحقيق النصوص ونشر الكتب

عند الأوروبيين ابتداء من القرون الوسطى:

من الثابت تاريخيا أن أول من انهمك على مقابلة النصوص هم رجال الدين المسيحيين بأوروبا الغربية ابتداء من القرن الخامس الميلادي إلى غاية القرن السابع منه إذ صادفت هذه المرحلة سقوط الأمبراطورية الرومانية.
وقد شهدت أماكن العبادة والأديرة في المدن الأوروبية الكبرى بفرنسا وإيطاليا احتكار ثقافة الكتاب وإنتاجه، فظهرت إلى الوجود فئة من الكنسيين، غرقت في تاريخ ثقافة القرون الوسطى بـ "النساخ" (Les Copistes)، وقد كانت لهم حظوة ومكانة مرموقتين في المجتمع الأوروبي آنذاك، حيث كان عملهم ينحصر في كتابة النصوص الدينية وشروحات الشارحين، ثم مقابلتها بالنصوص الأصلية، بالإضافة إلى كتابة سير القدسين أو ما يعرف بـ "الهاجيوغرافيا" (Hagiographie)، وهي كتابة قريبة مما يعرف في التراث العربي الاسلامي بكتب السيرة والتراجم.
لقد ميزت هذه المرحلة ببعض السمات في طرائق الكتابة التأليف التي كان لها دور مهم في عملية تحقيق النصوص، منها ما كانت له علاقة بشرح النصوص الأرسطية من منظور كنسي، ومنها ما ارتبط بما كان شائعا في أواسط "النساخ" حينما كانوا يعمدون إلى كشط ما كان مكتوبا على الرقوق والجلود من آثار الكتاب الكلاسيكيين اليونان والرومان، واحلال محلها شروحات رجال الدين المسيحيين، الأمر الذي كان من الأسباب الجوهرية في عدم تمكن الأوروبيين في هذه الفترة من التعرف على النصوص اليونانية والرومانية معرفة علمية دقيقة.
أما ثاني مرحلة مهمة في تطور مفهوم التحقق من النصوص بأوروبا فقد تصافدت مع بداية الإشعاع العلمي والثقافي العربي الإسلامي، حيث استبدل الأوروبيون في هذه الفترة لغة العلم من اللغة اللاتينية إلى العربية، وكان ذلك فيما بين القرن السابع الميلادي والقرن الثالث عشرة منه، وقد انكب الدارسون الرهبان وغيرهم، في عملية ترجمة واسعة للآثار العلمية العربية، الانفتاح والتسامح الذي اتسمت به الثقافة العربية الإسلامية في معظم الحواضر الإسلامية مثل بغداد وقرطبة وأشبيلية وغيرها من المدن العربية الاسلامية.
لكن ابتداء من القرن 13م بدأ علم تحقيق النصوص بأوروبا يخطو خطوات هامة وتزامن ذلك مع حركة الإحياء "La Renaissance" التي بدأت أولا مع ترجمة الأعمال العلمية العربية ثم انتقال مصانع الورق العربية التي كانت شائعة منذ القرن الثامن الميلادي نحو الأندلس وشاطبة على وجه الخصوص إلى غاية أن استوى الأمر بأوروبا مع تأسيس الجامعات مثل أكسفورد بانجلترا سنة 1163م والسوربون بفرنسا في سنة 1257م، وقد كانت تقنية التحقق من النصوص في هذه الفترة تقوم على ترجمة النصوص العربية وخاصة تلك المتعلقة بفلسفة أفلاطون وأرسطو ومقابلتها بما أنجزه الكنسيون في هذا الميدان مركّزين عملهم هذا على الرجوع إلى بعض ما انفلت من نصوص يونانية من أيدي الكشاط والكنسيين الذين كانوا يمقتون كل ما هو يوناني أو عربي، وقد كان الأمر يستدعي في هذه الحالة الاستعانة بجيش من المترجمين من العلماء المسلمين والمسيحين واليهود ممن كانوا يتقنون اللغات اليونانية والعربية واللاتينية.
وتواصلت حركة نقد النصوص القديمة ونشرها في أوروبا، وإن كانت لاتقوم على منهج محدد وقواعد متعارف عليها، خلال القرن الخامس عشر الميلادي عندما دخل الأوروبيون فعليا في عصر الإحياء الذي تميز بإعادة اكتشاف التراث اليوناني اللاتيني وفق منظور وفلسفة قائمة على القطيعة الابستمولوجية والدينية، فكانوا يعمدون إلى جمع النسخ المتعددة للكتاب الواحد ويقابلون بينها. وكانت المنهجية المتبعة حينئذ تنحصر في اختيار احدى الروايات من النسخ المختلفة ووضعها في نص الكتاب، ثم تقييد ما بقي من الروايات في الهوامش. وقد ساعدهم في ذلك تعميم استعمال الطباعة الحديثة وانتشارها في معظم المدن الأوروبية مثل باريس وروما وليبزغ وليدن وغيرها. وبعد ما كانت حركت النشر تراوح مكانها قبل اختراع غوتمبرغ، قفز التحقيق والنشر إلى مئات الآلاف من النسخ للكتاب الواحد. ففي القرن 15م وحده قذفت المطابع إلى الأسواق ما يقارب الخمسة والثلاثين ألفا من العناوين أو ما يفوق عشرين مليونا من النسخ مع العلم أن تعداد سكان أوروبا في تلك الفترة من الزمن لم يكن يتعدّى المائة مليون نسمة، أما في 16م فقد وصل إنتاج الكتب ما بين 150 ألف و200 ألف عنوانا، كانت تمثل من حيث عدد النسخ مائتي مليون، وطبع منها في ألمانيا وحدها 45 ألفا من العناوين، و26 ألفا في انجلترا، وما يقارب الثلاثين ألفا بفرنسا.
وعلى الرغم الذي من التطور الذي حصل في ميدان التحقيق والنشر بأوروبا فانه يمكن القول بأن الأصول العلمية لنقد النصوص "الفيلولوجيا" لم تظهر إلا في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي في إطار التحولات الجذرية التي بدأت ملامحها ترتسم بعد الثورة الفرنسية في سنة 1789م مباشرة إذ قامت السلطات المركزية آنذاك بتأميم مكتبات الطبقة الأرستقراطية ومكتبات الكنائس والدير. الأمر الذي دفع المتخصصين في مجال المخطوطات الوثائق بصورة عامة إلى إيحاد السبل العلمية والتقنية من أجل التحقق من صحتها بهدف نشرها لعامة الناس. وفي ضوء ما توصل إليه المحققون الأوربيون، فرنسيين كانوا أو ألمان، استخدم المستشرقون بعد ذلك تلك الأصول والقواعد مع ما استوحوه من قواعد وطرائق المحققين والمترجمين العرب والمسلمين الأوائل في نقد الكتب العربية والشرقيةعموما، وكان ذلك على يد ثلة من العلماء والمحققين مثل الألماني "برجستراسر" والفرنسيين "بلاشير" و"سوفاجي" وغيرهم. ثم توالت المحاولات في هذا الباب على يد العديد من الدارسين المرموقين من أمثال إبراهيم مدكور وعبد السلام هارون وصلاح الدين المنجد وغيرهم.

عند المسلمين في العصور الذهبية:

لقد عرف المسلمون الأوائل ما يطلق عليه اليوم التحقيق بما اتبعوه من قواعد انتهت بهم إلى ما أثبتوه من علوم الحديث عن طريق إثبات صحة السند وعلم الجرح والتعديل وما قام به علماء اللغة والشعر من توثيق للنص القديم ومن التثبيت عن صحة نسب النص الذي يعتمدون عليه إلى قائله، والواقع أن هذه التجربة العلمية والمنهجية الفريدة عند المسلمين ما كان لها أن تكون لولا الظروف الخاصة التي مرت بها الحياة الدينية والعقلية عند المسلمين من بداية التأسيس. لقد مر المسلمون بتجربة التحقق والحيطة والحذر في كتابة النص القرآني منذ الوهلة الأولى التي عهد فيها الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه لمعاصريه من الصحابة بتوثيق القرآن الكريم. والحقيقة أن القرآن الكريم قد كتب كله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما دفع الخليفة أبابكر رضي الله عنه إلى تجميعه مرة أخرى كان بدافع موضوعي، هو أن القرآن الكريم كان محفوظا في وعائين مهمين، هما: ما أملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته، ومنهم زيد بن ثابت، وقد كان على العسب واللخاف والرقيق، وأما الوعاء الثاني فقد كان في صدور الصحابة من أنصار ومهاجرين، فما كان من أمر أبي بكر رضي الله عنه في هذه المرحلة الثانية إلا استنساخ القرآن بمعارضة ما حفظ على العسب واللخاف، أي ما أملاه النبي صلى الله عليه وسلم، بما حفظه الصحابة رضوان الله عليهم. ولقد اتفق -مثلما تبنيه المصادر- على أن الخليفة أبا بكررضي الله عنه قد نادى في المدينة المنورة: "من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به".
وأخرج ابن أبي داؤد أيضا أن أبا بكر قال لعمرو بن زيد: أقعدا على باب المسجد، ومن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، وقال السيوطي في مجال القراء: المراد أنهما سيشهدان على أن ذلك كمكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مجرد الحفظ، قلت: أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته. فاكتمل هذا العمل الجبار الذي أشرف عليه الصحابي الجليل زيد بن ثابت تحت رعاية ووصاية الخليفة أبي بكر، وبعد مراجعة دقيقة لآيات وسور القرآن.
روى الطبري عن زيد بن ثابت: " لما كملت كتابة القرآن في المصحف قرأته فوجدت تفقد فيه آية 23 من سورة الأحزاب (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) فبحثت عنها عند المهاجرين بيتا بيتا فلم أجدهاعندهم، ثم بحثت كذالك عند الأنصار فلم أجدها إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري، فكتبتها، ثم قرأت النسخة مرة أخرى فوجدت تفقد فيها آيات من آخر سورة التوبة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم... إلى... رب العرش العظيم) فبحثت عند المهاجرين فلم أجدها عندهم، ثم بحثت عند الأنصار فلم أجدها إلا عند خزيمة فأدخلتها، ثم قرأت ثالثا من أوله إلى آخره، فلما إطمأن خاطري أنه جامع مانع لا ينقصه شيء قدمت نسخة المصحف إلى أبي بكر فأثنى علي؛ فكانت عنده".
وغرض زيد أنه لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة كما قول السيوطي نقلا عن أبي شامة: "لم أجدها مع غيره أي مكتوبة مع غيره"، ويعلق صبحي الصالح على ذلك بقوله: وقد كان ذلك كافيا لقبوله إياها (أي مكتوبة مع أبي خزيمة)؛ لأن كثيرا من الصحابة كانوا يحفظونها، ولأن زيدا نفسه كان يحفظها ولكنه أراد ورعا واحتياطا بأن يشفع الحفظ بالكتابة، وظل ناهجا هذا المنهج في سائر القرآن الذي تتبعه فجمعة بأمر أبي بكر، فكان لا بد لقبول آية أو آيات من شاهدين هما: الحفظ والكتابة.
ولم يتوقف العلماء المسلمون كثيرا في مجال التحقيق والتمحيص عند كتابة وتوثيق القرآن الكريم؛ لأن هذه المسألة كانت بالنسبة إليهم أمرا قد حسم فيه منذ الكتابة الأولى للقرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم قد قاموا بإبتكار منهجية وقواعد صارمة في قضية توثيق الحديث النبوي الشريف هذه المرة، ويرجع الفضل في إرساء قواعد الإسناد إلى أبي بكر الزهري (742م) الذي اهتم بسلاسل الأسانيد لعدد كبير من الأحاديث، وكان عليه وهو أحد البابعين أن يبحث عن أوائل التابعين والصحابة الذين أدركوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وسمعوا منه أو كانوا أصحاب هذه الأحاديث، أما دوره في ذلك فيمكن في أنه كان أول من أثبت الأحاديث في صورة مكتوبة، ولقد انسحب هذا المنهج على بقية العلوم عند المسلمين حتى أمسى علما قائما بذاته، لا يقترب عالم أو أديب أو مؤرخ من علم إلا وتسلح به، فيمكن القول بكل ارتياح بأن منهجية تحقيق المخطوط قد ولدت من بطن علوم الحديث مثله في ذلك مثل بقية العلوم والفنون العربية الإسلامية، ضف إلى ذلك ما اتسمت به طبيعة الكتابة ومذاهبها عند العلماء المسلمين الذي كانوا يراجعون ما يؤلفونه من كتب علمية، سواء بالزيادة أو التنقيح.
ومن ميزات التأليف عندهم أيضا: الإختصار والتفصيل، إذ قلما نجد عالما أو مؤرخا لايصدر كتابه مختصرا مرة ومفصلا أخرى.
ثم ان ما طبع عملية التأليف من سمات مميزة هي مجالس الإملاء التي كان ينقل فيها الكتاب الواحد أكثر مرة واحدة، فيتعرض النص إلى الزيادة النقصان والتحريف.
ومن الطبعي أن يهتم العلماء المسلمون آنذاك بالتحقيق والتمحيص فيما يكتب وينقل من علم في شتى الميادين، حتى وصل بهم المقام إلى تأليف كتب في التحقيق والنظر،ضمنوها ملاحظات وآراء تحولت مع مروو الزمن إلى قواعد استلهمها المستشرقون الأوروبيون في تصديدهم لعملية تحقيق ونشر التراث العربي الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
ومن تلك الأعمال يمكن ذكر ما يلي:
1- تقييد العلم للخطيب البغذادي المتوفى عام 1071م.
2- تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة المتوفى عام 1273م.
3- المعيد في أدب المفيد والمستفيد لعبد الباسط العلموي المتوفى عام 1573م.
4- الدر النضيد للبدر الغزي المتوفى عام 1577م.

خطوات تحقيق النصوص العربية

أسبق محاولات وضع قواعد وأصول لنقد النصوص العربية كانت للمستشرق الألماني برجستراسر ومحققين العرب من أمثال عبد السلام هارون وصلاح الجين المنجد، إذ قام هذا الأخير مثلا بوضع قواعد نشرت لأول مرة في مجلة المخطوطات العربية عام 1955م وتمت الموافقة عليها في مؤتمر المجامع العربية الذي انعقد بدمشق سنة 1956م، واعتبرها دليلا للمحققين في نشر التراث العربي الإسلامي، ولقد كانت هذه القواعد مستوحاة إلى جانب تجربة المحقق الشخصية مما وضعته جمعية المستشرقين الألمان لنشر سلسلة النشرات الإسلامية التي كانت تصدرها "Bibliotheca Islamica"، والتي كانت تضم مجموعة هامة من المستشرقين من أمثال كارل بروكلمان صاحب "تاريخ الأدب العربي"، وهلموت ريتر مؤلف "مخطوطات تاريخية عربية في مكتبات اسطنبول" وغيرها.
أما فيمايخص خطوات أو قواعد تحقيق النصوص العربية كما اتبعها العديد من المحققين البارزين، سواء كانوا عربا أو مستشرقين، فإنها تتناول الكتب العربية القديمة مهما كانت الموضوعات التي تطرقها، والتحقيق يشمل كل أنواع الكتب العربية القديمة، ومنها:
1- الكتب التي لم تطبع بعد، أي تلك التي لا تزال في شكلها المخطوط.
2- الكتب التي تم طبعها قديما ولم تخضع نصوصها إلى النقد والتحقيق، ولم يزودها أصحابها بالفهارس والكشافات بأنواعها، ويشمل هذا النوع كل الكتب العربية القديمة التي طبعت بأوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر، أي بعد اكتشاف الطباعة، وهي كثيرة خصص لها بعض المستشرقين بيبلوغرافيات كاملة.
3- الكتب نشرتها المطابع العربية خلال القرن التاسع عشر في مصر ولبنان والجزائر، وخاصة تلك التي برزت إبان حكم محمد علي لمصر "مطبعة بولاق"، وما تم نشره على أيدي بعض المستشرقين الفرنسيين بالجزائر خلال القرن التاسع عشر.
4- الكتب التي تم تحقيقها وطبعها من طرف المستشرقين والعلماء العرب المحدثين، غير أنها بعد النشر كشف عن نسخ قديمة من مخطوطاتها.
من الخطوات العلمية التي درج عليها المحققون في تحقيق ونشر كتب التراث ما يلي:

[أ] جمع الأصول:

يؤكد كل من برجرستراسر في "أصول نقد النصوص ونشر الكتب" وفرانز روزنتال في "مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي" وفؤاد سيد في "الكتاب العربي المخطوط" في مسألة ضبط النص وتأديته على السعي إلى معرفة نسخ الكتاب المختلفة ومعرفة قيمتها العلمية والتاريخية، وذلك عن طريق مراجعة البيبليوغرافيات القديمة منها والحديثة مثل "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة أو "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان، أو "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين، أو كل ما من شأنه الإسهام في التعرف على أصول النصوص وأصحابها مثل كتب التراجم العربية، وبعضها يتجه نحو الكتابة البيبلوغرافية مثل "كتاب الديباج" لابن فرحون، و "كتاب نيل الابتهاج" لأحمد بابا التنبكتي وغيرهما، ويضاف إلى هذه المصادر أيضا مصادر في غاية من الأهمية في هذا الباب، وهي الفهارس بأنواعها، سواء تلك التي نجد بين طيات المصادر مثل "فهرسة ابن خير الاشبيلي" و "فهرسة ابن عطية الأندلسي" أو "فهارس المكتبات مثل "نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا" لرمضان ششن وغيرها، وتمكن أهمية الخطوة الأولى في عملية تحقيق النصوص، وهي جمع الأصول من أجل ضبط النص وتأديته تأدية صحيحة، في جانبين، هما:
الجانب الأول:
(1) مراجعة المصادر المذكورة للتأكد من صحة نسب المخطوطة لصاحبها، ومن ثمة التعرف على جزء من حياته وعصره وتلمذه على شيوخه وما إلى ذلك.
(2) التحقق من صحة عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلفه عن طريق المصادر البيبليوغرافية القديمة والحديثة المذكورة سابقا.
(3) مقابلة نسخ الكتاب المختلفة بعد اعتماد أحد النسخ أصلا وإثبات نصها وإعطاء رموز لسائر النسخ، ويشار إليها في الهامش لتحديد اختلاف القراءات بين النسخ والتصحيف والتحريف والخطأ والإستغناء عن ذكر أوهام الناسخ.
(4) ضبط النص وشكله وخاصة الأعلام والمواضع والمصطلحات والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأبيات الشعر، ويشار في المقدمة إذا كان الأصل مضبوطا أو أن الضبط من عمل المحقق.
(5) تحديد مصادر المؤلف ومعارضة النصوص التي نقلها على أصولها، ويشار في الهامش بإيجاز إلى ما فيها من زيادة أو نقصان، وإذا لم يشر المؤلف إلى مصادره وتمكن المحقق من التعرف عليها فيشار إلى ذلك أيضا.
وعلى المحقق أن يورد أية إضافة عن صلب النص سواء من المصادر أو يقتضيها السياق أن تكون بين قوسين معقوفين [...] كما يتطلب النص وتأديته تقسيم الكتاب إلى فقرات ووضع علامات الترقيم من نقط وفواصل وأقواس وعلامات تنصيص وتعجب واستفهام، ورسم الكلمات بقواعد الإملاء الحديث من وضع الهمزات وإثبات أسماء الأعلام كما تكتب اليوم.
الجانب الثاني:
تقدير قيمة كل نسخة من النسخ وفق القواعد التي لم ضبطها من طرف جمهرة المحققين والعلماء، وهي حسب الأهمية العلمية:
(1) إن أعظم النسخ قيمة تلك التي كتبها المؤلف نفسه وعليها توقيعه، ويطلق عليها النسخة الأم.
(2) المخطوطة التي كتبها أحد طلاب المؤلف كما سمعها منه إملاء في حلقة الدرس أو بإشراف المؤلف نفسه، أو تلك التي يكون المؤلف، تلك التي يكون المؤلف قد صححها وأجازها.
(3) المخطوطة التي كتبها عالم شهير أو كانت في حوزة رجل عالم، أو قد تداولها أكثر من عالم واحد، وعليها تعليقاتهم.
(4) إن النسخ الكاملة أفضل من النسخ الناقصة، والنسخ القديمة أفضل من النسخ القديمة، والنسخ التي قوبل بغيرها أحسن من التي لم تقابل.
(5) النسخ المتأخرة المنسوخة عن نسخة المؤلف رأسا أو من نسخة من عصر المؤلف.
ومن الأمور الهامة التي يؤكد عليها مؤتمر المجامع العربية الذي انعقد بدمشق سنة 1956 حول تحقيق التراث عدم جواز نشر كتاب عن نسخة واحدة إذا كانت له نسخ أخرى معروفة كما أن قدم النسخة ليس وحده مبررا لتفضيلها.

[ب] الهوامش والتعليقات:

تمكن أهمية الإحالات والتعليقات في الكتب التراثية المحققة في أنها تخلع على النص المحقق طابع تأدية النص تأدية صحيحة، ثم إن هذه الإحالات والتعليقات تظهر العمل العلمي الذي يميز بين محقق بذل المجهود العلمي المطلوب الذي يسهم في إثراء النص وبين محقق آخر، فتحقيق النصوص حسب بعض الدراسين المتمرسين هو علم و صناعة وفن واصطلاح وممارسة هي التي تفاضل بين محقق آخر.
والسبب في ذلك يرجع إلى أن التراث العربي الإسلامي تراث متنوع بين الأصول والفقه والحديث والتاريخ والجغرافيا وعلم الكلام والأدب والشعر والطب والصيدلة والفلك وغيرها، فالذي ينكفئ على تحقيق مخطوطة في التاريخ لابد أن تكون له معرفة وثقافة في التاريخ اطلاع واسع على مصادرها، وعلى محقق كتاب تراثي في الصيدلة أن يكون مدركا لاصطلحات هذا العلم ومطلعا مصادره القديمة والحديثة كذلك.
والحقيقة أنه إذا كانت هناك بعض القواعد التي يجب إتباعها عند تحقيق أي كتاب مثل تخريج الأعلام والمواضع والبلدان وما إلى ذلك من أمور تسهم في عملية فهم النص، فإن لكل كتاب طريقته الخاصة التي تفرضها ثقافة ومصادر المحقق في ميدان من ميادين المعرفة المختلفة في التراث العربي الإسلامي.
وقد تشتمل الإحالات والتعليقات التحقق من الأبيات والشواهد الشعرية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والأمثال الواردة في النص المحقق، وذلك بالرجوع إلى المصادر، كما تتضمن إحالات الكتاب أيضا المقابلات والتخريجات وفروق النسخ بين مخطوطة وأخرى.

[ج] الكشافات:

وهي ما يطلق عليها أيضا الفهارس التحليلية والتي تغني تركيب المواد ترتيبا مفصلا في شكل فهرست، وهو الأمر الذي لم يكن معروفا عند العلماء القدامى، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، والحاجة إليها لم تبرز إلا بعد اكتشاف الطباعة في 15م، وتأتي الكشافات أو الفهارس التحليلية بعد الانتهاء من جمع الكتاب وتصفيفه في صفحات وتوضع حسب الموضوع المطروق:
(1) فهرس الأعلام
(2) فهرس المواضع والأماكن والبلدان
(3) فهرس للقبائل والأمم والفرق
(4) فهرس لأسماء الكتب الواردة في النص
(5) فهرس المصطلحات
(6) فهرس للمسائل الفقهية (إذا كان الكتاب في الفقه)
(7) فهرس للقوافي (إذا كان الموضوع في الشعر)
(8) فهرس لأدوية (إذا كان الكتاب في الصيدلة)

[د] المقدمة:

ويقصد بها المقدمة العلمية التي يقوم المحقق بكتابتها بعد الإنتهاء من النص دراسة وتحقيقا وطبعا، ذلك لأنه قد يحتاج إلى ذكر صفحات من الكتاب، وتتضمن المقدمة الإشارةإلى:
(1) أهمية الكتاب والهدف من نشره
(2) موضوع الكتاب ومكانته بين الكتب ذات الموضوع الواحد
(3) نقول المتأخرين من الكتاب، وإلى إي عصر ظل الكتاب معروفا
(4) سيرة حياة مؤلف الكتاب: ثقافته وعصره، شيوخه ومؤلفاته، أهم المصادر التي ترجمت له
(5) مخطوطات الكتاب: ويتم الإشارة إلى المخطوطات المعتمد عليها في التحقيق وأماكن وجودها وأرقامها ووصفها المادي وتاريخ نسخها وما عليها من سماعات أو إجازات أو تملكات أو توقيعات وتحديد النسخة التي اعتمدها أصلا ورموز جميع النسخ التي قابل بها.
(6) التحقيقات السابقة للكتاب (إن وجدت) والتعليق عليها سلبا أو أيجابا
(7) المنهج الذي سار وفقه المحقق في إخراج النص والتعليق عليه.

[ه] ثبت المصادر والمراجع:

و مثل أي عمل أكاديمي يجب على المحقق أن يذيل كتابه بقائمة بأسماء المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في كتابة المقدمة وتقحيق النص وتأدية مرتبة على أسماء المؤلفين، مشيرا فيها إلى عناوين الكتب الرئيسية، فالعناوين الفرعية، تليها الطبعة، البلد أو المدينة التي طبع فيها الكتاب، المؤسسة أو دار النشر، سنة النشر، عدد صفحات المصدر أو المرجع.
وهكذا فإن عملية تحقيق النصوص ونشر الكتب التراثية من الأعمال الجليلة والمضنية في آن واحد لا يقربها إلا من يتسلح بالصبر والجلد، ليس في عملية التحقيق ذاتها فحسب، بل أيضا في رحلة التفتيش عن المخطوطات ومشاق التنقل بين المكتبات الخاصة والعامة.
والذي يعرف الحالة والأسلوب الذين تتحفظ بهما المخطوطات العربية الإسلامية في الجزائر وبقية الدول العربية يدرك أنه أمام معضلة لا حل لها إلا بخلق إستراتيجية حقيقية للتكفل بإشكال المخطوط العربي الإسلامي والمكتبة العربية عموما(1).









(1) المستفاد من "قضايا في تاريخ الزوايا" لمحمد صاحبي ، مجلة الأمل، عدد 35.