الأحد، 15 يناير 2017

تحقيق المخطوط وخطواته المنهجية


تحقيق المخطوط وخطواته

تحقيق النصوص ونشر الكتب

عند الأوروبيين ابتداء من القرون الوسطى:

من الثابت تاريخيا أن أول من انهمك على مقابلة النصوص هم رجال الدين المسيحيين بأوروبا الغربية ابتداء من القرن الخامس الميلادي إلى غاية القرن السابع منه إذ صادفت هذه المرحلة سقوط الأمبراطورية الرومانية.
وقد شهدت أماكن العبادة والأديرة في المدن الأوروبية الكبرى بفرنسا وإيطاليا احتكار ثقافة الكتاب وإنتاجه، فظهرت إلى الوجود فئة من الكنسيين، غرقت في تاريخ ثقافة القرون الوسطى بـ "النساخ" (Les Copistes)، وقد كانت لهم حظوة ومكانة مرموقتين في المجتمع الأوروبي آنذاك، حيث كان عملهم ينحصر في كتابة النصوص الدينية وشروحات الشارحين، ثم مقابلتها بالنصوص الأصلية، بالإضافة إلى كتابة سير القدسين أو ما يعرف بـ "الهاجيوغرافيا" (Hagiographie)، وهي كتابة قريبة مما يعرف في التراث العربي الاسلامي بكتب السيرة والتراجم.
لقد ميزت هذه المرحلة ببعض السمات في طرائق الكتابة التأليف التي كان لها دور مهم في عملية تحقيق النصوص، منها ما كانت له علاقة بشرح النصوص الأرسطية من منظور كنسي، ومنها ما ارتبط بما كان شائعا في أواسط "النساخ" حينما كانوا يعمدون إلى كشط ما كان مكتوبا على الرقوق والجلود من آثار الكتاب الكلاسيكيين اليونان والرومان، واحلال محلها شروحات رجال الدين المسيحيين، الأمر الذي كان من الأسباب الجوهرية في عدم تمكن الأوروبيين في هذه الفترة من التعرف على النصوص اليونانية والرومانية معرفة علمية دقيقة.
أما ثاني مرحلة مهمة في تطور مفهوم التحقق من النصوص بأوروبا فقد تصافدت مع بداية الإشعاع العلمي والثقافي العربي الإسلامي، حيث استبدل الأوروبيون في هذه الفترة لغة العلم من اللغة اللاتينية إلى العربية، وكان ذلك فيما بين القرن السابع الميلادي والقرن الثالث عشرة منه، وقد انكب الدارسون الرهبان وغيرهم، في عملية ترجمة واسعة للآثار العلمية العربية، الانفتاح والتسامح الذي اتسمت به الثقافة العربية الإسلامية في معظم الحواضر الإسلامية مثل بغداد وقرطبة وأشبيلية وغيرها من المدن العربية الاسلامية.
لكن ابتداء من القرن 13م بدأ علم تحقيق النصوص بأوروبا يخطو خطوات هامة وتزامن ذلك مع حركة الإحياء "La Renaissance" التي بدأت أولا مع ترجمة الأعمال العلمية العربية ثم انتقال مصانع الورق العربية التي كانت شائعة منذ القرن الثامن الميلادي نحو الأندلس وشاطبة على وجه الخصوص إلى غاية أن استوى الأمر بأوروبا مع تأسيس الجامعات مثل أكسفورد بانجلترا سنة 1163م والسوربون بفرنسا في سنة 1257م، وقد كانت تقنية التحقق من النصوص في هذه الفترة تقوم على ترجمة النصوص العربية وخاصة تلك المتعلقة بفلسفة أفلاطون وأرسطو ومقابلتها بما أنجزه الكنسيون في هذا الميدان مركّزين عملهم هذا على الرجوع إلى بعض ما انفلت من نصوص يونانية من أيدي الكشاط والكنسيين الذين كانوا يمقتون كل ما هو يوناني أو عربي، وقد كان الأمر يستدعي في هذه الحالة الاستعانة بجيش من المترجمين من العلماء المسلمين والمسيحين واليهود ممن كانوا يتقنون اللغات اليونانية والعربية واللاتينية.
وتواصلت حركة نقد النصوص القديمة ونشرها في أوروبا، وإن كانت لاتقوم على منهج محدد وقواعد متعارف عليها، خلال القرن الخامس عشر الميلادي عندما دخل الأوروبيون فعليا في عصر الإحياء الذي تميز بإعادة اكتشاف التراث اليوناني اللاتيني وفق منظور وفلسفة قائمة على القطيعة الابستمولوجية والدينية، فكانوا يعمدون إلى جمع النسخ المتعددة للكتاب الواحد ويقابلون بينها. وكانت المنهجية المتبعة حينئذ تنحصر في اختيار احدى الروايات من النسخ المختلفة ووضعها في نص الكتاب، ثم تقييد ما بقي من الروايات في الهوامش. وقد ساعدهم في ذلك تعميم استعمال الطباعة الحديثة وانتشارها في معظم المدن الأوروبية مثل باريس وروما وليبزغ وليدن وغيرها. وبعد ما كانت حركت النشر تراوح مكانها قبل اختراع غوتمبرغ، قفز التحقيق والنشر إلى مئات الآلاف من النسخ للكتاب الواحد. ففي القرن 15م وحده قذفت المطابع إلى الأسواق ما يقارب الخمسة والثلاثين ألفا من العناوين أو ما يفوق عشرين مليونا من النسخ مع العلم أن تعداد سكان أوروبا في تلك الفترة من الزمن لم يكن يتعدّى المائة مليون نسمة، أما في 16م فقد وصل إنتاج الكتب ما بين 150 ألف و200 ألف عنوانا، كانت تمثل من حيث عدد النسخ مائتي مليون، وطبع منها في ألمانيا وحدها 45 ألفا من العناوين، و26 ألفا في انجلترا، وما يقارب الثلاثين ألفا بفرنسا.
وعلى الرغم الذي من التطور الذي حصل في ميدان التحقيق والنشر بأوروبا فانه يمكن القول بأن الأصول العلمية لنقد النصوص "الفيلولوجيا" لم تظهر إلا في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي في إطار التحولات الجذرية التي بدأت ملامحها ترتسم بعد الثورة الفرنسية في سنة 1789م مباشرة إذ قامت السلطات المركزية آنذاك بتأميم مكتبات الطبقة الأرستقراطية ومكتبات الكنائس والدير. الأمر الذي دفع المتخصصين في مجال المخطوطات الوثائق بصورة عامة إلى إيحاد السبل العلمية والتقنية من أجل التحقق من صحتها بهدف نشرها لعامة الناس. وفي ضوء ما توصل إليه المحققون الأوربيون، فرنسيين كانوا أو ألمان، استخدم المستشرقون بعد ذلك تلك الأصول والقواعد مع ما استوحوه من قواعد وطرائق المحققين والمترجمين العرب والمسلمين الأوائل في نقد الكتب العربية والشرقيةعموما، وكان ذلك على يد ثلة من العلماء والمحققين مثل الألماني "برجستراسر" والفرنسيين "بلاشير" و"سوفاجي" وغيرهم. ثم توالت المحاولات في هذا الباب على يد العديد من الدارسين المرموقين من أمثال إبراهيم مدكور وعبد السلام هارون وصلاح الدين المنجد وغيرهم.

عند المسلمين في العصور الذهبية:

لقد عرف المسلمون الأوائل ما يطلق عليه اليوم التحقيق بما اتبعوه من قواعد انتهت بهم إلى ما أثبتوه من علوم الحديث عن طريق إثبات صحة السند وعلم الجرح والتعديل وما قام به علماء اللغة والشعر من توثيق للنص القديم ومن التثبيت عن صحة نسب النص الذي يعتمدون عليه إلى قائله، والواقع أن هذه التجربة العلمية والمنهجية الفريدة عند المسلمين ما كان لها أن تكون لولا الظروف الخاصة التي مرت بها الحياة الدينية والعقلية عند المسلمين من بداية التأسيس. لقد مر المسلمون بتجربة التحقق والحيطة والحذر في كتابة النص القرآني منذ الوهلة الأولى التي عهد فيها الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه لمعاصريه من الصحابة بتوثيق القرآن الكريم. والحقيقة أن القرآن الكريم قد كتب كله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما دفع الخليفة أبابكر رضي الله عنه إلى تجميعه مرة أخرى كان بدافع موضوعي، هو أن القرآن الكريم كان محفوظا في وعائين مهمين، هما: ما أملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته، ومنهم زيد بن ثابت، وقد كان على العسب واللخاف والرقيق، وأما الوعاء الثاني فقد كان في صدور الصحابة من أنصار ومهاجرين، فما كان من أمر أبي بكر رضي الله عنه في هذه المرحلة الثانية إلا استنساخ القرآن بمعارضة ما حفظ على العسب واللخاف، أي ما أملاه النبي صلى الله عليه وسلم، بما حفظه الصحابة رضوان الله عليهم. ولقد اتفق -مثلما تبنيه المصادر- على أن الخليفة أبا بكررضي الله عنه قد نادى في المدينة المنورة: "من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به".
وأخرج ابن أبي داؤد أيضا أن أبا بكر قال لعمرو بن زيد: أقعدا على باب المسجد، ومن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، وقال السيوطي في مجال القراء: المراد أنهما سيشهدان على أن ذلك كمكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مجرد الحفظ، قلت: أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته. فاكتمل هذا العمل الجبار الذي أشرف عليه الصحابي الجليل زيد بن ثابت تحت رعاية ووصاية الخليفة أبي بكر، وبعد مراجعة دقيقة لآيات وسور القرآن.
روى الطبري عن زيد بن ثابت: " لما كملت كتابة القرآن في المصحف قرأته فوجدت تفقد فيه آية 23 من سورة الأحزاب (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) فبحثت عنها عند المهاجرين بيتا بيتا فلم أجدهاعندهم، ثم بحثت كذالك عند الأنصار فلم أجدها إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري، فكتبتها، ثم قرأت النسخة مرة أخرى فوجدت تفقد فيها آيات من آخر سورة التوبة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم... إلى... رب العرش العظيم) فبحثت عند المهاجرين فلم أجدها عندهم، ثم بحثت عند الأنصار فلم أجدها إلا عند خزيمة فأدخلتها، ثم قرأت ثالثا من أوله إلى آخره، فلما إطمأن خاطري أنه جامع مانع لا ينقصه شيء قدمت نسخة المصحف إلى أبي بكر فأثنى علي؛ فكانت عنده".
وغرض زيد أنه لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة كما قول السيوطي نقلا عن أبي شامة: "لم أجدها مع غيره أي مكتوبة مع غيره"، ويعلق صبحي الصالح على ذلك بقوله: وقد كان ذلك كافيا لقبوله إياها (أي مكتوبة مع أبي خزيمة)؛ لأن كثيرا من الصحابة كانوا يحفظونها، ولأن زيدا نفسه كان يحفظها ولكنه أراد ورعا واحتياطا بأن يشفع الحفظ بالكتابة، وظل ناهجا هذا المنهج في سائر القرآن الذي تتبعه فجمعة بأمر أبي بكر، فكان لا بد لقبول آية أو آيات من شاهدين هما: الحفظ والكتابة.
ولم يتوقف العلماء المسلمون كثيرا في مجال التحقيق والتمحيص عند كتابة وتوثيق القرآن الكريم؛ لأن هذه المسألة كانت بالنسبة إليهم أمرا قد حسم فيه منذ الكتابة الأولى للقرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم قد قاموا بإبتكار منهجية وقواعد صارمة في قضية توثيق الحديث النبوي الشريف هذه المرة، ويرجع الفضل في إرساء قواعد الإسناد إلى أبي بكر الزهري (742م) الذي اهتم بسلاسل الأسانيد لعدد كبير من الأحاديث، وكان عليه وهو أحد البابعين أن يبحث عن أوائل التابعين والصحابة الذين أدركوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وسمعوا منه أو كانوا أصحاب هذه الأحاديث، أما دوره في ذلك فيمكن في أنه كان أول من أثبت الأحاديث في صورة مكتوبة، ولقد انسحب هذا المنهج على بقية العلوم عند المسلمين حتى أمسى علما قائما بذاته، لا يقترب عالم أو أديب أو مؤرخ من علم إلا وتسلح به، فيمكن القول بكل ارتياح بأن منهجية تحقيق المخطوط قد ولدت من بطن علوم الحديث مثله في ذلك مثل بقية العلوم والفنون العربية الإسلامية، ضف إلى ذلك ما اتسمت به طبيعة الكتابة ومذاهبها عند العلماء المسلمين الذي كانوا يراجعون ما يؤلفونه من كتب علمية، سواء بالزيادة أو التنقيح.
ومن ميزات التأليف عندهم أيضا: الإختصار والتفصيل، إذ قلما نجد عالما أو مؤرخا لايصدر كتابه مختصرا مرة ومفصلا أخرى.
ثم ان ما طبع عملية التأليف من سمات مميزة هي مجالس الإملاء التي كان ينقل فيها الكتاب الواحد أكثر مرة واحدة، فيتعرض النص إلى الزيادة النقصان والتحريف.
ومن الطبعي أن يهتم العلماء المسلمون آنذاك بالتحقيق والتمحيص فيما يكتب وينقل من علم في شتى الميادين، حتى وصل بهم المقام إلى تأليف كتب في التحقيق والنظر،ضمنوها ملاحظات وآراء تحولت مع مروو الزمن إلى قواعد استلهمها المستشرقون الأوروبيون في تصديدهم لعملية تحقيق ونشر التراث العربي الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
ومن تلك الأعمال يمكن ذكر ما يلي:
1- تقييد العلم للخطيب البغذادي المتوفى عام 1071م.
2- تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة المتوفى عام 1273م.
3- المعيد في أدب المفيد والمستفيد لعبد الباسط العلموي المتوفى عام 1573م.
4- الدر النضيد للبدر الغزي المتوفى عام 1577م.

خطوات تحقيق النصوص العربية

أسبق محاولات وضع قواعد وأصول لنقد النصوص العربية كانت للمستشرق الألماني برجستراسر ومحققين العرب من أمثال عبد السلام هارون وصلاح الجين المنجد، إذ قام هذا الأخير مثلا بوضع قواعد نشرت لأول مرة في مجلة المخطوطات العربية عام 1955م وتمت الموافقة عليها في مؤتمر المجامع العربية الذي انعقد بدمشق سنة 1956م، واعتبرها دليلا للمحققين في نشر التراث العربي الإسلامي، ولقد كانت هذه القواعد مستوحاة إلى جانب تجربة المحقق الشخصية مما وضعته جمعية المستشرقين الألمان لنشر سلسلة النشرات الإسلامية التي كانت تصدرها "Bibliotheca Islamica"، والتي كانت تضم مجموعة هامة من المستشرقين من أمثال كارل بروكلمان صاحب "تاريخ الأدب العربي"، وهلموت ريتر مؤلف "مخطوطات تاريخية عربية في مكتبات اسطنبول" وغيرها.
أما فيمايخص خطوات أو قواعد تحقيق النصوص العربية كما اتبعها العديد من المحققين البارزين، سواء كانوا عربا أو مستشرقين، فإنها تتناول الكتب العربية القديمة مهما كانت الموضوعات التي تطرقها، والتحقيق يشمل كل أنواع الكتب العربية القديمة، ومنها:
1- الكتب التي لم تطبع بعد، أي تلك التي لا تزال في شكلها المخطوط.
2- الكتب التي تم طبعها قديما ولم تخضع نصوصها إلى النقد والتحقيق، ولم يزودها أصحابها بالفهارس والكشافات بأنواعها، ويشمل هذا النوع كل الكتب العربية القديمة التي طبعت بأوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر، أي بعد اكتشاف الطباعة، وهي كثيرة خصص لها بعض المستشرقين بيبلوغرافيات كاملة.
3- الكتب نشرتها المطابع العربية خلال القرن التاسع عشر في مصر ولبنان والجزائر، وخاصة تلك التي برزت إبان حكم محمد علي لمصر "مطبعة بولاق"، وما تم نشره على أيدي بعض المستشرقين الفرنسيين بالجزائر خلال القرن التاسع عشر.
4- الكتب التي تم تحقيقها وطبعها من طرف المستشرقين والعلماء العرب المحدثين، غير أنها بعد النشر كشف عن نسخ قديمة من مخطوطاتها.
من الخطوات العلمية التي درج عليها المحققون في تحقيق ونشر كتب التراث ما يلي:

[أ] جمع الأصول:

يؤكد كل من برجرستراسر في "أصول نقد النصوص ونشر الكتب" وفرانز روزنتال في "مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي" وفؤاد سيد في "الكتاب العربي المخطوط" في مسألة ضبط النص وتأديته على السعي إلى معرفة نسخ الكتاب المختلفة ومعرفة قيمتها العلمية والتاريخية، وذلك عن طريق مراجعة البيبليوغرافيات القديمة منها والحديثة مثل "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة أو "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان، أو "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين، أو كل ما من شأنه الإسهام في التعرف على أصول النصوص وأصحابها مثل كتب التراجم العربية، وبعضها يتجه نحو الكتابة البيبلوغرافية مثل "كتاب الديباج" لابن فرحون، و "كتاب نيل الابتهاج" لأحمد بابا التنبكتي وغيرهما، ويضاف إلى هذه المصادر أيضا مصادر في غاية من الأهمية في هذا الباب، وهي الفهارس بأنواعها، سواء تلك التي نجد بين طيات المصادر مثل "فهرسة ابن خير الاشبيلي" و "فهرسة ابن عطية الأندلسي" أو "فهارس المكتبات مثل "نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا" لرمضان ششن وغيرها، وتمكن أهمية الخطوة الأولى في عملية تحقيق النصوص، وهي جمع الأصول من أجل ضبط النص وتأديته تأدية صحيحة، في جانبين، هما:
الجانب الأول:
(1) مراجعة المصادر المذكورة للتأكد من صحة نسب المخطوطة لصاحبها، ومن ثمة التعرف على جزء من حياته وعصره وتلمذه على شيوخه وما إلى ذلك.
(2) التحقق من صحة عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلفه عن طريق المصادر البيبليوغرافية القديمة والحديثة المذكورة سابقا.
(3) مقابلة نسخ الكتاب المختلفة بعد اعتماد أحد النسخ أصلا وإثبات نصها وإعطاء رموز لسائر النسخ، ويشار إليها في الهامش لتحديد اختلاف القراءات بين النسخ والتصحيف والتحريف والخطأ والإستغناء عن ذكر أوهام الناسخ.
(4) ضبط النص وشكله وخاصة الأعلام والمواضع والمصطلحات والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأبيات الشعر، ويشار في المقدمة إذا كان الأصل مضبوطا أو أن الضبط من عمل المحقق.
(5) تحديد مصادر المؤلف ومعارضة النصوص التي نقلها على أصولها، ويشار في الهامش بإيجاز إلى ما فيها من زيادة أو نقصان، وإذا لم يشر المؤلف إلى مصادره وتمكن المحقق من التعرف عليها فيشار إلى ذلك أيضا.
وعلى المحقق أن يورد أية إضافة عن صلب النص سواء من المصادر أو يقتضيها السياق أن تكون بين قوسين معقوفين [...] كما يتطلب النص وتأديته تقسيم الكتاب إلى فقرات ووضع علامات الترقيم من نقط وفواصل وأقواس وعلامات تنصيص وتعجب واستفهام، ورسم الكلمات بقواعد الإملاء الحديث من وضع الهمزات وإثبات أسماء الأعلام كما تكتب اليوم.
الجانب الثاني:
تقدير قيمة كل نسخة من النسخ وفق القواعد التي لم ضبطها من طرف جمهرة المحققين والعلماء، وهي حسب الأهمية العلمية:
(1) إن أعظم النسخ قيمة تلك التي كتبها المؤلف نفسه وعليها توقيعه، ويطلق عليها النسخة الأم.
(2) المخطوطة التي كتبها أحد طلاب المؤلف كما سمعها منه إملاء في حلقة الدرس أو بإشراف المؤلف نفسه، أو تلك التي يكون المؤلف، تلك التي يكون المؤلف قد صححها وأجازها.
(3) المخطوطة التي كتبها عالم شهير أو كانت في حوزة رجل عالم، أو قد تداولها أكثر من عالم واحد، وعليها تعليقاتهم.
(4) إن النسخ الكاملة أفضل من النسخ الناقصة، والنسخ القديمة أفضل من النسخ القديمة، والنسخ التي قوبل بغيرها أحسن من التي لم تقابل.
(5) النسخ المتأخرة المنسوخة عن نسخة المؤلف رأسا أو من نسخة من عصر المؤلف.
ومن الأمور الهامة التي يؤكد عليها مؤتمر المجامع العربية الذي انعقد بدمشق سنة 1956 حول تحقيق التراث عدم جواز نشر كتاب عن نسخة واحدة إذا كانت له نسخ أخرى معروفة كما أن قدم النسخة ليس وحده مبررا لتفضيلها.

[ب] الهوامش والتعليقات:

تمكن أهمية الإحالات والتعليقات في الكتب التراثية المحققة في أنها تخلع على النص المحقق طابع تأدية النص تأدية صحيحة، ثم إن هذه الإحالات والتعليقات تظهر العمل العلمي الذي يميز بين محقق بذل المجهود العلمي المطلوب الذي يسهم في إثراء النص وبين محقق آخر، فتحقيق النصوص حسب بعض الدراسين المتمرسين هو علم و صناعة وفن واصطلاح وممارسة هي التي تفاضل بين محقق آخر.
والسبب في ذلك يرجع إلى أن التراث العربي الإسلامي تراث متنوع بين الأصول والفقه والحديث والتاريخ والجغرافيا وعلم الكلام والأدب والشعر والطب والصيدلة والفلك وغيرها، فالذي ينكفئ على تحقيق مخطوطة في التاريخ لابد أن تكون له معرفة وثقافة في التاريخ اطلاع واسع على مصادرها، وعلى محقق كتاب تراثي في الصيدلة أن يكون مدركا لاصطلحات هذا العلم ومطلعا مصادره القديمة والحديثة كذلك.
والحقيقة أنه إذا كانت هناك بعض القواعد التي يجب إتباعها عند تحقيق أي كتاب مثل تخريج الأعلام والمواضع والبلدان وما إلى ذلك من أمور تسهم في عملية فهم النص، فإن لكل كتاب طريقته الخاصة التي تفرضها ثقافة ومصادر المحقق في ميدان من ميادين المعرفة المختلفة في التراث العربي الإسلامي.
وقد تشتمل الإحالات والتعليقات التحقق من الأبيات والشواهد الشعرية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والأمثال الواردة في النص المحقق، وذلك بالرجوع إلى المصادر، كما تتضمن إحالات الكتاب أيضا المقابلات والتخريجات وفروق النسخ بين مخطوطة وأخرى.

[ج] الكشافات:

وهي ما يطلق عليها أيضا الفهارس التحليلية والتي تغني تركيب المواد ترتيبا مفصلا في شكل فهرست، وهو الأمر الذي لم يكن معروفا عند العلماء القدامى، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، والحاجة إليها لم تبرز إلا بعد اكتشاف الطباعة في 15م، وتأتي الكشافات أو الفهارس التحليلية بعد الانتهاء من جمع الكتاب وتصفيفه في صفحات وتوضع حسب الموضوع المطروق:
(1) فهرس الأعلام
(2) فهرس المواضع والأماكن والبلدان
(3) فهرس للقبائل والأمم والفرق
(4) فهرس لأسماء الكتب الواردة في النص
(5) فهرس المصطلحات
(6) فهرس للمسائل الفقهية (إذا كان الكتاب في الفقه)
(7) فهرس للقوافي (إذا كان الموضوع في الشعر)
(8) فهرس لأدوية (إذا كان الكتاب في الصيدلة)

[د] المقدمة:

ويقصد بها المقدمة العلمية التي يقوم المحقق بكتابتها بعد الإنتهاء من النص دراسة وتحقيقا وطبعا، ذلك لأنه قد يحتاج إلى ذكر صفحات من الكتاب، وتتضمن المقدمة الإشارةإلى:
(1) أهمية الكتاب والهدف من نشره
(2) موضوع الكتاب ومكانته بين الكتب ذات الموضوع الواحد
(3) نقول المتأخرين من الكتاب، وإلى إي عصر ظل الكتاب معروفا
(4) سيرة حياة مؤلف الكتاب: ثقافته وعصره، شيوخه ومؤلفاته، أهم المصادر التي ترجمت له
(5) مخطوطات الكتاب: ويتم الإشارة إلى المخطوطات المعتمد عليها في التحقيق وأماكن وجودها وأرقامها ووصفها المادي وتاريخ نسخها وما عليها من سماعات أو إجازات أو تملكات أو توقيعات وتحديد النسخة التي اعتمدها أصلا ورموز جميع النسخ التي قابل بها.
(6) التحقيقات السابقة للكتاب (إن وجدت) والتعليق عليها سلبا أو أيجابا
(7) المنهج الذي سار وفقه المحقق في إخراج النص والتعليق عليه.

[ه] ثبت المصادر والمراجع:

و مثل أي عمل أكاديمي يجب على المحقق أن يذيل كتابه بقائمة بأسماء المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في كتابة المقدمة وتقحيق النص وتأدية مرتبة على أسماء المؤلفين، مشيرا فيها إلى عناوين الكتب الرئيسية، فالعناوين الفرعية، تليها الطبعة، البلد أو المدينة التي طبع فيها الكتاب، المؤسسة أو دار النشر، سنة النشر، عدد صفحات المصدر أو المرجع.
وهكذا فإن عملية تحقيق النصوص ونشر الكتب التراثية من الأعمال الجليلة والمضنية في آن واحد لا يقربها إلا من يتسلح بالصبر والجلد، ليس في عملية التحقيق ذاتها فحسب، بل أيضا في رحلة التفتيش عن المخطوطات ومشاق التنقل بين المكتبات الخاصة والعامة.
والذي يعرف الحالة والأسلوب الذين تتحفظ بهما المخطوطات العربية الإسلامية في الجزائر وبقية الدول العربية يدرك أنه أمام معضلة لا حل لها إلا بخلق إستراتيجية حقيقية للتكفل بإشكال المخطوط العربي الإسلامي والمكتبة العربية عموما(1).









(1) المستفاد من "قضايا في تاريخ الزوايا" لمحمد صاحبي ، مجلة الأمل، عدد 35.

الأربعاء، 24 أغسطس 2016

نبذة عن حياة الجاحظ

عمرو بن بحر الجاحظ الكنعاني
صورة الجاحظ من ذهن الراسم
صورة الجاحظ من ذهن الراسم

اسمه عمرو بن بحر، وكنيته أبو عثمان، ولقب بالجاحظ؛ لأن عينيه كانتا بارزين من حدقتيهما الواسعتين، وكان أسود اللون، فاختلف في أصله، ذهب بعضهم إلى أنه كان مولى لأبي القلمس عمرو بن قلع الكناني من العناصر الأفريقية التي تداخلت في العنصر العربي، وقال بعضهم بانه كان عربيا خالصا، وإنما جاء السواد من قبل احدى جداته في عمود نسبه.
ولد الجاحظ في مدينة البصرة سنة خمس وسبعين وسبعمائة من الميلاد، توفي والده في حديث سنه، فنشأ وترعرع في البصرة التي كانت أكبر حواضر العلم والأدب بعد بغداد في ذلك العصر، وقضى أكثر عمره فيها، يجتمع في مسجدها مع رفاقة طائفة من العلماء وأرباب الأدب والنحو واللغة الذين كانوا عرفوا بـ "المسجديين"، فأقبل الجاحظ إليهم يجالسهم ويأخذ عنهم الكثير من العلوم والآداب بفضل ذكائه وحافظته، وقد كان تعلم القراءة والخط في احدى الكتاتيب، فبرع في صحبتهم في الفصاحة وأساليب التعبير شفاها عن خطباء العرب في سوق "المربد"، فأخذ كثيرا من علوم العربية عن أبي عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو خاصة عن الأخفش، وعلم الكلام عن أبي اسحاق ابراهيم النظام، وعلاوة هذا كان له شغف خاص بمطالعة الكتب، فكان يتردد منذ حداثته إلى سوق المربد ويكتري حوانيت الوراقين ويبيت فيها مطالعا.
كان الجاحظ في أول أمره ضيق الرزق، يبيع الخبز والسمك بسيحان، وهو نهر بالبصرة، ثم انتقل إلى بغداد، وتردد إلى مجالس الأدباء كابن وهب وابن الزيات، ووجد عندهم مالم يجده عند مشائخه الذين أخذ عنهم الشعر والأدب، وبهم عرف ماهية الشعر وقام بحق الأدب والكتابة، وظل هكذا يتوسع في ماحصله حتى تمت له ثقافة راقية، وتنبه عقله، فتمكن من التعرض لقضايا خطيرة في الدين، وكان يعرف الفارسية، فيكثر من مطالعة المؤلفات الفكرية والفلسفية، ثم شرع في التأليف، وكان ينسبها في أول أمره إلى ابن المقفع وسهل بن هارون حتى استولت له شهرة كبيرة بين كتاب عصره، فعلا نجمه، وترامت تلك الشهرة إلى أذن المأمون، وقرأ المأمون كتابا له "كتاب الإمامة"، واعجب به، فاستقدمه وسأله أن يكتب له رسالة في العباسية، ثم أقامه على ديوان رسائله، ولكنه كره حياة الديوان، فلم يلبث فيه سوى ثلاثة أيام وخرج.
وفي آخر حياته أصيب بفالج نصفي، فعاد إلى البصرة، حيث لزم بيته، فهرع العلماء والأدباء إلى زيارته، ثم أصيب بداء النقرس، وفي المحرم من سنة مائتين وخمسة وخمسين (٢٥٥ هـ- 868 م) سقطت عليه مجلدات من كتب، وهو جالس بينها يقرأ، فمات وعمره كان نحو ست وتسعين سنة.
وكان الجاحظ قبيح المنظر، مشوه الوجه، ناتي العينين، ولكنه كان مطبوع على الظرافة والفكاهة، ينظر إلى الأمور نظرًا ليس هو نظر السوداوي وﻻ نظر العصبي، وكان رجلا واقعيا ينظر إلى الأمور كما هي، ومعاشرته كانت معاشرة رجل حلو الحديث، حسن المحاضرة، حاضر الجواب، سريع النكتة، وكان يحب اللهو وسماع القياع والمغنين، كما كان مفطورا على الوفاء لأصحابه والثبات على ودهم، ولئن حرص على شيء في حياته فعلى الوقت الذي كان لديه أثمن من المال، والمال يبذله بسخاء، أما الوقت فلا يضيع منه ما يمكن شغله بالمفيد.
 كان الحاحظ ذكيا غريب الذكاء، قوي الملاحظة، واسع التفكير، بارعا في كثير من علوم اللغة والآداب ومن العلوم الطبيعية والعقلية، وكان مفكرا حرّا، قليل الأهتمام بماتواضع عليه الناس.
والجاحظ في أسلوبه فصيح الألفاظ، متين التركيب، يمزج الجد بالهزل ويكثر التهكم كما يكثر الاستطراد، ويرى الجاحظ أن حقيقة البيان هي الكشف عن المعنى بألفاظ تؤدي إلى الفهم والإفهام.
وللجاحظ شيء من الشعر، فيبدو أنه كان قد حاول التكسب بالشعر في أول أمره، ثم اختص بالكتابة، وأسلوبه شديد الإتصال بأسلوب ابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة، إلا أن أسلوب الجاحظ أمتن وآنق، ثم نهج منهجه، وأبدع أسلوبه الخاص، فظهرت المدرسة الجاجظية في الكتابة وشاعت، ونحن اليوم إذا أردنا أن نخطب أو نكتب في مجلة أو جريدة لجأنا في الأكثر إلى أسلوب ابن المقفع، وأما إذا أردنا أن نكتب مقدمة لكتاب أو أن نطنب في وصف أمر من الأمور خطابة أو كتابة فإننا نلجأ عادة إلى أسلوب الجاحظ.

كتب الجاحظ

كتب الجاحظ كثيرة جدا ومتنوعة الموضوعات، فقد كتب في معظم الفنون التي كانت معروفة في أيامه.

من كتبه في الفلسفة والإعتزال والدين:

1- الاستطاعة وخلق الأفعال
2- الإعتزال وفضله
3- خلق القرآن
4- آي القرأن
5- الاحتجاج لنظم القرآن
6- الإمامة
7- الرد على اليهود
8- الرد على المشبه
9- الدلائل والإعتبار على الخلق والتدبير

من كتبه في السياسة والإقتصاد:

1- الإستبداد والمشاورة في الحرب
2- أقسام فصول الصناعات ومراتب التجارات
3- الزرع والنخل والزيتون والأعناب
4- رسالة في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
5- رسالة في الخراج

من كتبه في الإجتماع والاخلاق:

1- اخلاق الشطار
2- اخلاق الفتيان وفضائل أهل البطالة
3- خصومة الحول والعور
4- رسالة في إثم السكر
5- البخلاء

من كتبه في العصبية وتاثير البيئة:

1- العرب والعجم
2- القحطانية والعدنانية
3- العرب والموالي
4- مفاخرة السودان والحمران
5- رسالة في فخر السودان على البيضان

من كتبه في التاريخ والجغرافية والطبعيات والرياضيات:

1- الملوك والأمم السالفة والباقية
2- الأخبار وكيف تصح
3- الأمصار
4- المعادن
5- نقص الطب
6- طبقات المغنين
7- الحيوان
8- الكلاب
9- الأسد والذئب
10- رسالة في الكيمياء
11- رسالة في القيان

من كتبه في الشعر والعلوم اللسانية والأدبية:

1- البيان والتبيين
2- المحاسن والأضداد والعجائب والغرائب

من كتبه في موضوعات شتى:

1- الأخوان
2- رسالة التربيع والتدوير
3- رسالة في العشق والنساء

الأربعاء، 17 أغسطس 2016

نبذة عن حياة عبد الله بن المقفع

عبد الله بن المقفع

صورة ابن المقفع من ذهن الراسم
هو عبد الله بن المقفع، كنيته أبو محمد، كان فارسي الأصل، ولد في مدينة "جور" بفارس، سنة أربع وعشرين وسبعمائة من الميلاد، وكان اسمه روزبه، واسم والده دازويه، وكان ابوه يتولى خراج فارس للجاج بن يوسف، فألزم بالسرقة من مال السلطان، فضربه الحجاج حتى تفقعت يده، فسمي بالمقفع.
انتقل ابوه إلى البصرة، فنشأ فيها ابن المقفع، واحتك فيها بالعرب والثقافة العربية، وجعل يكتب بأسلوب عربي فارسي، في لغة سمحة، وتفكير عميق، فتعالى صيته، وانتشرت سمعته، ومالت الأنظار والقلوب إليه، حتى استدعي إلى ديوان بني أمية، فجعل يكتب لعمر بن هبيرة، ثم ليزيد بن عمر هبيرة الذي كان والي العراق من قبل مروان الأموي، ثم كتب لأخيه داود بن هبيرة، وكان حينئد في العشرين من عمره.
وكان يدين بدين الزرداشتية حتى إلى عهد بني أمية، وبعد الانقلاب العباسي اتصل بعيسى بن علي، عم السفاح والمنصور، الذي كان والي الأهواز، فأسلم على يده، وجعل يكتب له، واستمر في خدمة عمله حتى قتله سفيان بن معاوية والي البصرة من قبل المنصور، فقطع منه عضوا عضوا ورمي به في التنور، فتوفي سنة تسع والخمسين وسبعمائة من الملاد، في الخامسة والثلاثين من عمره.
واختلف في سبب قتله، فقيل: لأنه كان على الزندقة، وقيل: بل أراد المنصور أن يستدرج عمه عبد الله بن علي، وقيل: إنه ألف كتاب كليلة ودمنة تعريضا بالمنصور وتلميحا إليه، والأغلب: أنه قتل بسبب تشدده في كتابة صيغة الأمان التي وضعها ابن المقفع ليوقع عليها أبو جعفر المنصور أمانا لعبد الله بن علي عم المنصور، فأفرط ابن المقفع في الاحتياط فيها حتى ﻻيجد المنصور منفذا للإخلال لعهده، فقد كتب فيها أن المنصور إن أخل بشرط من شروط هذا الأمان كانت نساؤه طوالق وكان الناس في حل من بيته.
كان ابن المفقع من أقوى الشخصيات في عالم الأدب العربي، فكان قويا في خلقه، قويا في عقله وسعة علمه، قويا في لسانه، وكان علمه واسعا لإتساع معارفه، فقد جمع إلى الثقافة العربية الثقافة الفارسية والثقافة اليونانية والثقافة الهندية عن طر يق الفارسية، فهو زغيم المدرسة الكتابية الأولى في العهد العباسي وإمامها، وكان له يد طويلة عبقرية في فن الترجمة والنقل.
وكان ابن المقفع شديد الذكاء، عقله اكبر من علمه، دقيق الملاحظة، بارعا في معالجة المادة الحسية والعقلية، وكان بارعا في البحث والتحليل وفي سرد القصص وضرب الأمثال.
والالفاظ عند ابن المقفع فصيحة، والتركيب عنده صحيح سهل، إلا أن جمله طويله متعانقة، وهو بارع في التصرف بأحرف الجرّ الكثيرة وبأسماء الموصول، واسلوبه خال من الصناعة، وانه كان كاتبا مترسلا متوظفا، ولكن شهرته تقوم على كليلة ودمنة. 

عن كتابه كليلة ودمنة

فكليلة ودمنة هو كتاب فيه اربع مقدمات، ثم خمسة عشر بابا تدور حول أسئلة يلقيها ملك من ملوك الهند، يدعونه "دبشليم" على فيلسوف معاصر له، يزعمون أن اسمه "بيدبا"، وقد أجاب بيدبا على هذه الأسئلة بأجوبة مناسبة، ثم ضرب على ما أجاب به أمثلة.
وفي هذا الكتاب يتعلم الأمراء كيف يحكمون الرعايا، وكيف يتعايش الناس فيمابينهم، أويشيرون على طاعة أولي الأمر منهم، وعمدة الكتاب أن ثمة مثلا عليا ثابتة من طاعة السلطان وحسن الصداقة وفن الصدق في القول والعمل ومن أدب الضيافة.
وفي أصل هذا الكتاب إختلاف، فكتب ابن المقفع في مقدمته: أن الكتاب هو هندي الأصل، نقله الفرس إلى لغتهم، ثم جاء هو ونقله من البهلوية (الفارسية القديمة) إلى العربية.
وقال بعضهم: إن الكتاب قد وضعه ابن المقفع بنفسه؛ لأن الكتاب غير معروف في الآداب القديمة، ولايوجد اسم دبشليم الملك، ولا بيدبا الفيلسوف في التاريخ، وما في الكتاب من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآراء الفقهية يدل على أن الكاتب قد نشأ في بيئة اسلاميةعربية محض.
وقال بعضهم: إن هذه القصص والأمثال كلها كانت معروفة، وكانت توجد بأعيانها أو بأشباهها عند اليونان وعند الفرس وعند اليابانيين، فابن المقفع هو إنما نقل الآراء الأجنبية إلى اللغة العربية، وصاغها صياغة عربية تلائم البيئة العربية.

الأعمال الكاملة لابن المقفع:

في التاريخ: 

1- خداينامه (في سير ملوك العجم)
2- آين نامه (في عادات الفرس و|آدابه)
3- التاج (في سيرة انوشيروان)
4- الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة ( في أخبار السادة الصاليحين)
5- مزدك

في الفلسفة:

1- قاطيوغورياس (المقالات العشر)
2- باري ارميناس (في العبارة)
3- انالوطيقا (تحليل القياس)

في الأدب والإجتماع:

1- الأدب الكبير
2- الأدب الصغير
3- كليلة ودمنة

الرسالة:

1- رسالة الصحابة، أو الهاشمية، (في نقد نظام الحكم واصلاحه)، وهي رسالة كتبها إلى أبي جعفر المنصور.

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

الأرجوزة

الأرجوزة

الرجز لغة :

هو ان تضرب رجل البعير أو فخذيه إذا أراد القيام أو أثار ساعة ثم تنبسط، والرجز داء يصيب البعير والناقة ترتعش منه أفخاذها ومؤخرتها عند القيام، ومنه سمي الرجز من الشعر لتقارب أجزائه وقلة حروفه، ومنه قول الراعي النميري يصف الأثافي:
                                      ثلاث صلين النار شهرا وارزمت
                                      عليهن رجــزاء القـيــــام هـــدوج

الرجز اصطلاحا:

هو فن من فنون الادب العربي يقع على البحر يسمى الرجز، وسمي بذلك لمناسبة بينه وبين معناه اللغوي، وهو شعر يسهل في السمع ويقع في النفس لخفته، حتى سماه النقاد حمار الشعر؛ لأن كل شاعر يستطيع ركوبه لسهولته، وأجمع النقاد على أنه أول الشعر العربي.

وجه التسمية:

أطلق على هذا البحر من الشعر رجزا لأنه تتوالى فيه الحركة والسكون، ثم الحركة والسكون، وهو يشبه في هذا بالرجز في رجل الناقة ورعشتها حين تصاب بهذا الداء فهي تتحرك وتسكن، ثم تتحرك وتسكن، ويقال لها حينئذ رجزاء.

الفرق بين الرجز والقصيدة:

الرجز نوع من أنواع الشعر العربي، يكون كل مصراع منه منفردا بيتا، أي يعدّ كل شطر فيه بيتا، وتسمى قصائده "أراجيز"، واحدتها "أرجوزة"، وصاحبها "راجزًا" أو "رجازة".
والأرجوزة هي غير القصيدة؛ لأن القصيدة يكون البيت فيها مكونا من مصراعين، والرجز يصير قصيدا حينما تكثر أبياته فيطول، فلا يمتنع أيضا أن يسمى ما كثرت بيوته من مشطور الرجز ومنهوكه قصيدة، لأن اشتقاق القصيد من قصدت إلى الشيء، كأن الشاعر قصد إلى عملها على تلك الهيئة، والرجز مقصود أيضا إلى عمله كذلك، أي إنه قصد إطالة الرجز قصدا، فصنع منه القصائد، فالقصيد يمكن أن يطلق على كل الرجز، وليس الرجز مطلقا على كل قصيد.
والشعر كله اما أراجيز وإما قصائد، ويسمى ناظم الرجز راجزا، وقائل القصيدة شاعرًا.

بحر الأرجوزة وأنواعها:

التام:

وزنه التام هو:
                                      مستفعلن مستفعلن مستفعلن
                                      مستفعلن مستفعلن مستفعلن

المجزوء:

ولكن قد يستعمل هذا البحر بشكل غيركامل، فإذا ذهب منه جزء واحد سمي مجزوءا، وهو الذي يبقى على أربع تفاعيل، ولشوقي ضيف ارجوزه مشهورة من هذا النوع، وأولها:
                             لي جدة تــرأف بي      أحنى علي من أبي

المشطور:

وإذا بقي على ثلاث تفاعيل سمي مشطورا، ومنه أرجوزة لحافظ يقول فيه:  
                   تحية كالورد في الأكمام          أزهى من الصحة في الأجسام
                   يسوقها شوقي إليكم نامي        تقصـــر عنه هــمــة الأقـــلام

المنهوك:

وإذا بقي البيت على تفعلتين فسمي منهوكا، ومنه بعض أراجيز أبي نواس المشهورة التي يقول في احداها:
                             إلـهنــا مـا أعـدلــك               مليك كـل من ملك
                             لبـيك قـد لبـيـت لك                ما خاب عبد سألك
                             أنت له حيث سألك                لولاك يا رب هلك

تطور الارجوزة:

قال بعض الرواة أن الرجز جاء قبل الشعر، وقال بعضهم أن الشعر في الأصل كان رجزا، حتى كان المهلهل وامرؤ القيس راجزين، ثم حولاه إلى قصيدة.
وقد كان في بداية الأمرعبارة عن مقطعات بسيطة تجري على ألسنة الناس، ثم ترقى شيئا فشيئا، وانتقل من المقطعات إلى الأراجيز، فكان يستخدم بكثرة في العصر الجاهلي، وصار كالوزن الشعبي العام الذي يدور على كل لسان، ومن أجل ذلك لا نجد شعراء الجاهلية ينظمون فيه، فكأنما تركوه للجمهور، فينظمها كثيرون معروفون ومجهولون، حين يحدون ببعير وحين يتناولون أي عمل كحفل بئر أو متح منها.
ثم لقي الرجز عناية خاصة في العصر الاموي، فتطور الشعر العربي، وأصبحت الارجوزة منه خاصة تؤلف من أجل حاجة المدرسة اللغوية، وتعد الارجوزة الأموية من هذه الناحية أول شعر تعليمي ظهر في اللغة العربية، فنجد هذه الرغبة في العناية بالغريب عند كثير من الشعراء، وهو اتجاه تعليمي دعت إليه عناية الأجانب بتعلم العربية ونهوض طائفة من العلماء بجمع اللغة وشواردها. وقد انبرى العجاج، وابنه رؤبة، يجمعان في شعرهما هذه الشوارد، حتى تحول ديواناهما إلى معجمين للغرائب اللغوية.

ميزات الارجوزة من حيث الفن:

1-   انها تكون قصير العبارات
2-   ولها جمال خاص من حيث الغناء
3-   وانها تكون متحدة من حيث الموسيقى
4-   تكون سهلة الألفاظ وسلسة النظم
5-   يسهل على القاري حفظها
6-   وتمتازبتقطيع العبارات والجمل الإعتراضية
7-   وتشتمل على غرابة الألفاظ

ميزات الأرجوزة من حيث الموضوع:

1-   انها تتناول كل أغراض القصيدة مثل الحديث عن الاطلال، ووصف الناقة والرحلة، والمدح، والهجاء، والفخر وغيرها من الأغراض القديمة.
2-   وانها تشتمل على الأفكار والمعلومات
3-   وانها تخبر عن الحقائق المجردة
4-   وتنظم فيها الاصول الدينية والنحوية

أسباب فناء الأرجوزة:

1-   عسر حفظ روي واحد في اشعار طويلة
2-   الملل عن الروي الوحيد عند طول الشعر
3-   صعوبة حصر المعنى التام في بيت واحد
4-   الاضطرار إلى تقسيم المعنى الواحد على بيتين أو ثلاثة او أكثر
5-   عدم وضوح المعنى وكون التعقيد
كانت من مخترعات شعراء البادية والعامية، فاستنكرها شعراء الدولة

النقائض

النقائض

النقائض في اللغة

نقض الشيء: أفسده بعد احكامه، قال تعالى: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، والنقائض هي جمع النقيضة، وهي من الشعر : القصيدة ينقض بها الشاعر ما قاله شاعر آخر.

النقائض في الإصطلاح

ويذكر عمر فروخ أنها قصيدة يرد بها شاعر على قصيدة لخصم له، فينقض معانيها عليه، ويقلب فخز خصمه هجاء، وينسب الفخر الصحيح إلى نفسه هو، وتكون النقيضة عادة من بحر قصيدة الخصم وعلى رويها.

نشأة النقائض:

فن النقائض هي في الأصل الهجاء، والهجاء القبلي في الجاهلية هو الذي استمر وظهر في العصر الأموي بشكل النقائض من حيث الفن،  وكانت النقائض في العصر الأموي يبعثها عادة خلاف بين قبيلتين أو أسرتين، فينتصر شاعر لقومه أو لأحلاف قومه، فيرد عليه شاعر من هؤلاء، فيعود الأول إلى الرد عليه، ثم يلتحم الهجاء ويستطير، وأذكى هذه النزعة في الشعراء قيام الأحزاب وتقرب هؤلاء الشعراء إلى الخلفاء والأمراء بهجاء خصومهم تكسبا للمال.

الطرق التي سلكها الشعراء في فن النقائض:

هناك عدة طرق ومسالك التي سلكها الشعراء في شعر النقائض، وهي:
1-   تكون النقيضة عادة من بحر قصيدة الخصم وعلى رويها، مثل الأخطل يقول (من البحر البسيط على روي الراء المضمومة):
خف القطين فراحوا منك أو بكروا                   وأزعحتهم نوى في صرفها غير
فأجابه جرير (من نفس البحر وعلى نفس الروي):
قل للديار سقي أطلالك المطر                        قد هجت شوقا وماذا تنفع الذكر
2-   وقد تختلف أحيانا حركة الروي في النقائض كقول الفرزدق (من البحر الكامل على اللام المضمومة):
ان الذي سمك السماء بنى لنا                          بيتا دعائمه أعز وأطول
فأجابه جرير (من البحر نفسه ولكن على اللام المكسورة):
لـــمن الديـار كأنــها لم تحلل                          بين الكناس وبين طلح الأعزل
إذا قال أحد الخصمين قصيدة جديدة (ولو كانت استمرارا لمهاجاة قديمة) فانه ينظمها عادة من بحر جديد وعلى روي جديد، إلا أن خصمه إذا رد على هذه القصيدة الجديدة تقيد ببحرها ورويها.
3-   وربما يشترك في المناقضة بضعة شعراء، ومن ذلك مثلا قول الفرزدق يخاطب جريرا:
يا ابن المزاغة والهجاء إذا التقت           أعناقه وتماحك الخصمان
فقال الجرير يرد على الفرزدق:
لمن الديار ببرقة الروحان                    إذ لا نبيع زماننا بزمان
وقال الأخطل يرد على جرير أيضا:
بكر العوازل يبتدرن ملامتي                          والعالمون، وكلهم يلحاني
4-   المختار في النقائض ان تكون طوالا
5-   في النقائض يفتخر الشاعر بنفسه وبقومه، وبفضائل نفسه كالشعر والكرم والشجاعة، ثم بأحساب قومه كالحروب التي انتصرو فيها والعهود التي وفوا بها، والمحاسن التي أتواها من الكرم والدفاع عن الأعراض والقيام بشأن القبيلة وما إلى ذلك.
6-   وينقب الشاعر في فن النقائض عن معايب خصمه وقوم خصمه فيذكرهم جميعا بالعي والبخل والجبن، حقا أو باطلا، ويذكر ايضا الحروب التي هزموا فيها والعهود التي نقضوها والمخازي التي عرضت لهم.
7-   وفي النقائض اقذاع شديد وفحش وبذاءة، إلا أن المتناقضين قد تعرضوا دائما للعيوب الخلقية النفيسة كالبخل والجبن والغدر والزنا، ولم يتعرضوا للعيوب الجسدية كالعرج والعور إلا نادرا.
8-   قد يمدح الشاعر خليفة أو أميرا بقصيدة يعرض فيها أيضا لهجاء خصمه أو للرد عليه فتكون نقيضة
9-   وقد يرثى الشاعر امرأته ثم يهجو خصومه كما فعل جرير.

أهمية النقائض:

وللنقائض عدة أهميات من ناحيات شتى، فهي مهمة من حيث السياسة، والإجتماع، واللغة، والأدب.

أهمية النقائض من حيث السياسة

صورت النقائض النزاع السياسي على الخلافة بين الامويين وبين خصومهم، ومع أن الاموين قد انتصروا في هذا النزاع انتصارا حاسما، ومع أن الأحزاب السياسية الاخرى قد فقدت قوتها الفعالة.
والشعراء الذين دخلوا في هذا النزاع لم يدخلوه وهم يحملون عقيدة أموية أو زبيرية أو علوية، وانما دخلوه للتكسب في الدرجة الاولى، حتى ان الشعراء الزبيريين انقلبوا بعد ذلك الامويين، وكذلك الاخطل النصراني مدح الخلفاء مدائح اسلامية الطابع تناقض عقيدته الدينية.

أهمية النقائض من حيث الاجتماع

ان مجموع الشعر الاموي يدلنا على ان البداوة ظلت غالبة علي المجتمع الاموي، وان الشعر الاموي مملوء بالمفاخر الجاهلية والبدوية كالفخر بالانساب وبأيام العرب وبالكلام على الثأر.
وظل شعراء المناقضات يعدون  الحياة الحضرية في باب معايب القومية، إلا أن الشعر الاموي امتلأ أيضا بالألفاظ الاسلامية و الآراء الاسلامية.

أهمية النقائض من حيث اللغة

وللنقائض قيمة لغوية، فشعراء المناقضات قد حفظوا اللغة  العربية صافية كما كانت في الجاهلية، فقد حفظوا العدد الاوفر من الالفاظ، وكذالك راعوا جزالة الالفاظ، وكذالك التراكيب وجدناها متينة تجري على الاسلو العربي القديم.

أهمية النقائض من حيث الأدب

كانت النقائض تقليدا واضحا للمعلقات خاصة في شكل القصيدة وفي كثرة أغراضها وطول نفسها وفي كثيرة من خصائص أخرى كالفخر بالانساب والهجاء القبلي والنسيب في مطالع القصائد وكالغزل البدوى عفيفا وصريحا، فانها كانت اكثر لصوقا بالجاهلية؛ لأن الشعراء كانوا معجبين بالشعراء الجاهلين يتخذون أئمة وهداة ويحتذون اشعارهم ويحاكون خصائصهم.

الغزل في العصر الاموي

بسم الله الرحمن الرحيم
الغزل في العصر الأموي
الغزل في اللغة:
الغزل هو حديث الفتيان والفتيات، وقال ابن سيده: الغزل هو اللهو مع النساء.
الغزل في الإصطلاح:
الغزل هوالقصيدة من الشعر الذي يدور موضوعه على الحب والعشق، يعبر فيه الشاعر عن خلجات قلبه وما تضطرب به نفسه من عواطف وانفعالات نحو حبيبته.
والغزل هو حديث القلب إلى القلب، وفن التحدث إلى المرأة بلغة الحرقة والإشتياق مرة والتذلل والاستعطاف أخرى، وشكوى الدهر والعواذل أحيانا مع تصوير ما يستبد بالشاعر من يأس وأمل وقلق وهدوء وصدو ووصال، وقد أطلق على هذا اللون اسم "النسيب".
والغزل كذلك فن التحدث عن جمال المرأة خَلقا وخُلقا على براعة في الوصف والتودد والتشبيب، بيد أن الشعراء والنقاد يستعملون مفردات التغزل والنسيب والتشبيب بمعنى واحد، وهو هذا الفن الوجداني المعبر عنه عامة بلفظة "الغزل".
نشأة الغزل
لم تخل العصور الادبية السابقة من الغزل، ولكن في عهد بني أمية قد طما سيله لتوفر عوامله، ونحن نعني بالغزل هنا ما استقل بذاته ولم يأت وسيلة للكلام على غيره من أغراض الشعر المعهودة التي رأيناها في الجاهلية، وأصبحت بعد ذلك العهد تقليدا يجري عليه الشعراء في افتتاح القصائد المدحية وغيرها.
وهذا الغزل الجديد لانجده إلا نادرا في الشام والعراق، وذلك أن الشام أصبح مقرا الخلافة الأموية كما كان العراق مقرا المعارضة، فكان البلدان ميدان السياسة لا مقر السكينة والفراغ، وكان فيهما الغزل التقليدي على أسلوبه القديم، وإنما نشأ الغزل الجديد في الحجاز وما يليه من البلاد العربية الخالصة.



عوامل وأسباب تطور الغزل
لقد انحدر الغزل الاموي من الغزل الجاهلي، غير أن الغزل كان في الجاهلية غرضا من أغراض القصيدة يأتي في أبيات تقل أو تكثر، وتتوالى أو تتفرق، فلما إنحدر إلى العصر الأموي أتيح له شعراء وقفوا جهدهم عليه.
ومن الحجاز خرجت الجيوش العربية لفتح الأمصار فانفقت على المدينة كنوز الأرض كما اندفق عليها الموالي من فرس وروم وشاميين ومصريين، وكان ذلك كله عاملا كبيرا في إنشاء حضارة جديدة اختلط فيها العرب بالشعوب الأعجمية وغاص فيها عرب المدينة بالترف والثراء.
وما انتقلت الخلافة إلى بني أمية حتى تبدلت الحال بغيرها، فانتقلت السياسة من الحجاز إلى الشام، وقام أهل الحجاز في صفوف المعارضين لبني أمية فانصرف عنهم الأمويون ولم يستخدموهم في وظائف الدولة الكبرى إلا فيما ندر.
ثم أهال الأمويون على أهل المدينة الأموال الطائلة لصرفهم عن السياسة، كما كبحوا جماع البدو ومنعوهم من الغزوات والغارات، فكان من ذلك كله بيئة فراغ.
أما في البادية من نجد والحجاز فقد اجتمع الحرمان والكبح مع الفقر، وكانت نتيجة ذلك نغمة زهد أو ميل إلى المثل العليا، وكان هذا الميل قسمين: دينيا وغزلا عفيفا.
وأما في الحاضرة فقد اجتمع الياس مع وفرة المال والثروة، فكان أنباء المهاجرين والأنصار في مكة والمدينة مثرين، واليأس والثروة أنتجا اللهو والإسراف في اللهو، فقد نشأت طبقة من الشبان الفارغين كانت حياتهم الإجتماعية حياة مجون وإثم، ساعدهم على ذلك كثرة الرقيق وما انتشر في البلاد من ضروب الملاهي، ولا سيما الغناء وما صحبه من موسيقى فشت في المدينة فشوا واسعا جدا، وقد نهض الموالي من المغنين والمغنيات بهذا الغناء نهضة شديدة، واقترنت هذه النهضة الغنائية نهضة كبيرة في فن الشعر الذي يغنى ويصحب بالضرب والغرف على الآلات الموسيقية، وهو شعر يدور في أغلبه على الحب ووقائعه، وكان في أكثر جوانبه غزلا مكشوفا ينشر الفساد مع الغناء.



أنواع الغزل
كان الغزل في هذا العهد على نوعين:
1- الغزل البدوي أوالعذري
2- الغزل الحضري أو الإباحي
الغزل العذري
أما البدوي فهو غزل العذريين الذين يعتنون بالحب الأفلاطوني العفيف، فهذا النوع يتقرب اجمالا من التعفف ويبتعد عن الإباحة.
اكتسب اسمه من قبيلة بني عذرة التي كثر فيها الشعراء الذين إختار كل واحد منهم أن يقصر همه وشعره على امرأة واحدة يرى فيها وفي قربها سعادته وشقاءه، ثم لا يلتفت إلى امرأة غيرها أيضا.
والمفروض أن يكون الغزل العذري غزلا عفيفا، ولا ريب في أن الشعر العذري شعر عذب سهل محبب إلى النفس الإنسانية؛ لأنه في الواقع يمثل النزوع الموجود في كل نفس إلى الحياة الطبعية في البشر.
وهذا النوع من الغزل يمتاز بالبداوة التي تكسب رصانة في غير عنف ولاجفوة، وتكسب معناه سذاجة في غير سخف ولا إسفاف، وهو يمتاز أيضا بالصدق في وصف العاطفة وتمثيلها.
ثم إننا لا نجد في هذا الشعر شخصيات متمايزة متباينة بين أصحابه، فكله قد نسي نفسه أو فنى في موضوعه فناء محا شخصيته، فاختلط أمر هؤلاء الشعراء على الرواة، واختلط من ثم شعرهم، فأضيف إلى الواحد ما هو للآخر، هذا فضلا عن كثرة التواطؤ في هذا الشعر على المعاني الواحدة والألفاظ الواحدة والأسلوب الواحد.
ومن أهم شعراء هذا النوع هم:
1- جميل بن معمر صاحب بثينة
2- ليلى الأخليلة صاحب توبة بن حمير
3- المجنون العامري صاحب ليلى
4- قيس بن ذريح صاحب لبنى


الغزل الاباحي
وأما الحضري فهو غزل إباحي يتغنى فيها الشاعر بالحب وملذاته الجسدية منصرفا فيه إلى الوصف القصصي الواقعي ن غير خجل ولا حياء؛ فإنه لايكتفي فيه بشرح الأسواق وشكوى الفراق بل يتجاوز إلى ذكر محاسن الحبيب و ملذات اللقاء بجرأة وتطرف.
وهذا النوع هو في الأصل المبالغة في الحب العذري التي أدت إلى ظهور الشعراء المجانين، أولئك الشعراء الذين ذهب عقلهم في تلك الأوهام التي كانوا يشتحونها لأنفسهم في خيالهم، ومع أن الشعراء المجانين غير ثابت على القطع بشعرائه؛ فإن هذه الطبقة من الشعراء كانت موجودة وكان لها شعر يبدو أن بعضه اختلط ببعض.
ومن ميزات هذا الغزل عدم ثبات الشعراء علي امرأة واحدة بل کانوا دائمي النقلة کالنحلة من زهرة إلي اخري مما دعا الي کثرة الأسماء عندهم.
ومن أهم شعراء هذا النوع:
1- عمر بن أبي ربيعة
2- الأحوص
3- الوليد بن يزيد