الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

مكانة المعلقات في العصر الجاهلي


المعلقات لغوًا وإصطلاحًا

لغة

المعلقات هي جمع المعلقة، و"المعلّقة" صيغة التأنيث الواحدة لإسم المفعول.
وأصله: التعليق، يقال: "علّق الرجل" إذا ألقى زمام الركوبة على عنقها ونزل عنها، وعلق الشيءَ بالشيء، أي: وضعه عليه، وقال بعضهم: أنه من "العِلْق"، وهو: النفيس من كل شيء يتعلّق به القلب[1].

إصطلاحًا

المعلّقات :هي مصطلح أدبي يطلق على مجموعة من القصائد المختارة لأشهر شعراء الجاهلية.

لماذا سميت بـ"المعلقات"

إختلف الأدباء في تعليل تسمية هذه القصائد بـ "المعقات"، فمنهم من قال بأنها أختيرت وعلقت بأستار الكعبة لتعظيمها، ومنهم من قال بأنها علقت وعدّت شيئًا نفيسًا فسمّيت بها؛ لأن الشعراء في الجاهلية كانوا يتبارون في سوق "عكاظ" أمام أحد فحول الشعر، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها وأثبتوها في خزائني.
وقيل: علّقوها بالذّهن أي حفظوها عن ظهر قلب فسمّيت بها[2].
ولكن الأكثر قد إختاروا القول الأول: أنها علقت بأستار الكعبة، وأول من علل بهذا هو ابن عبد ربه (328ه) حيث قال: "وقد بلغ من كلف به (بالشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد ميزتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها بأستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس ، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلقات "[3].
وذكر ابن رشيق في "العمدة" ما يوافق ابن عبد ربه، فقال: "وكانت المعلقات تسمى "المذهبات"، وذلك لأنها أختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطي بماء الذهب ، وعلقت على الكعبة فلذلك يقال "مذهبة فلان" إذا كانت أجود شعره . ذكر ذلك غير واحد من العلماء"[4].
وابن خلدون هو أيضا قائل بهذا، فقطع في قوله: "حتى انتهوا (أي العرب) إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم وبيت ابراهيم كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الديباني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع"[5].
وأول من أنكر تعليقها بأستار الكعبة هو أبو جعفر النحاس النحوي(338ه)، فلذلك هو يسميها بـ"القصائد السبع المشهورات"، ثم أفاض بعضٌ من المستشرقين في الكلام على هذا، وعلى رأسهم الألماني نولدكي (Noeldeke)، ثم تابعه بعض منا زهدا عن القدامة ورغبة في الجديد في كل شيء، حتى قال الدكتور شوقي ضيف:
"أمّا ما يقال من أنّ المعلقات كانت مكتوبة ومعلّقة في الكعبة فمن باب الأساطير ، وهو في الحقيقة ليس أكثر من تفسير فسّر به المتأخرون معنى كلمة "المعلقات" ... ولو أنّهم تنبّهوا إلى المعنى المراد بكلمة "المعلقات" ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد ، ومعناها : المقلَّدات والمسمّطات ، وكانوا يسمون فعلاً قصائدهم الطويلة الجيّدة بهذين الإسمين وما يشبههما"[6].
فإنهم قد استنكروا أن تعلق بالكعبة المدونات والمكتوبات لما لها من الإحترام والقدسية، ولكنهم قد غضوا أبصارهم عن ما وقع في التاريخ من التعليقات على الكعبة، فقال محمد حسن الزيات:
"تعليق الصحائف الخطيرة على الكعبة كان سنة في الجاهلية بقى أثرها في الإسلام، فمن ذلك تعليق قريش الصحيفة التي وكدوا فيها على أنفسهم مقاطعة هاشم ومطلب لحمايتهم رسول الله (ص) حين أجمع على الدعوة، وتعليق الرشيد عهده بالخلافة من بعده إلى ولديه الأمين فالمأمون، فلم لا يكون الأمر كذلك في هذه القصائد مع ما علمت من تأثير الشعر فيهم ومكانة الشعراء منهم؟"[7]

الأسماء المختلفة لـ "المعلقات"

وقد سمى عدد من الرواة والباحثين هذه القصائد بأسماء مختلفة، إلّا أنّ لفظة "المعلّقات" هي الّتي جرت على لسان عامة الأدباء والباحثين، حتى أن ما سواها من أسماءها هي صارت تحتاج إلى التعارف بأنها هي "المعلقات"، فنذكر من بعض أسماء هذه القصائد الأشهر فالأشهر:

المعلقات:

 أول من ورد هذا الإسم في كتابه هو أبو زيد القرشي، فقسّم القرشي القصائد المختارة المسمّاة بـ"جمهرة أشعار العرب" إلى أقسام، وجعل لكل قسم درجة على حسب طبقات الشعراء، فالطبقة الأولى عنده هي كانت تختص بأصحاب المعلقات، ووجه تسمية هذه القصائد بـ"المعلقات" قد سبق على التفصيل.

السموط:

سميت المعلقات بـ "السموط" بالنسبة إلى التشبيه بالقلائد والعقود التي تعلقها المرأة على صدرها للزينة.

المذهبات:

قد يطلق على المعلقات "المذهبات"، لأن القصائد كانت كتبت بماء الذهب، ثم علقت بالكعبة.

السبع الطوال:

أطلق عليها بـ "السبع الطوال" لأنها اشتملت على القصائد الطويلة، فسميت بأظهر صفاتها، وهو الطول.

القصائد السبع المشهورات:

هذا الإسم سمّاها به ابو جعفر النحاس، لحكاية أن حماد الراوية جمع هذه القصائد للناس وقال: هذه المشهورات.

السبع الطوال الجاهليات:

وهذه التسمية انفرد بها ابن الأنباري (328ه)، وذكرها  في شرحه لهذه القصائد.

القصائد السبع:

هذه التسمية التي سمى بها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزي في شرحه لهذه القصائد.

القصائد العشر:

وهذه التسمية إمتاز بها التبريزي (502ه)، فقد عنون شرحه لهذه القصائد بـ  "شرح القصائد العشر".
ومن أسماءه أيضًا: المسمَّطات، والمقلَّدات، والبتّارات، والمألوف.

من هم أصحاب المعلقات

قد إختلف الرواة في حصر عدد أصحاب المعلقات، ولكنهم كلهم اتفقوا على السبع، فمنهم من جعلهم ثمانيًا، ومنهم من عدهم إلى العشر.
وبعض من أصحاب المعلقات متفق عليهم، وبعض منهم مختلف فيهم، فالمتفق عليهم هم:
1.    امرؤ القيس الكندي
2.    زهير بي أبي سلمى المزني
3.    عمرو بن كلثوم التغلبي
4.    طرفة بن العبد البكري
5.    لبيد بن ربيعة العامري
هؤلاء كلهم خمسة، و مِن أصحاب المعلقات مَن الذين أختلف فيهم، فعدّهم بعض علماء الشعر من أصحاب المعلقات وأسقط بعضهم منهم، وهم:
1.    عنترة بن شداد العبسي
2.    النابغة الذبياني
3.    الأعشى القيسي
4.    الحارث بن حلزة البكري
5.    عبيد بن الأبرص الأسدي
فأبو زيد القرشي صاحب "جمهرة أشعار العرب" يجعلهم ثمانية، وهم: الخمسة الأولى، والنابغة، والأعشى، عنترة.
والزروزي يجعلهم سبعة، وهم: الخمسة الأولى و الحارث بن الحلزة، وعنترة.
وأبو زكريا التبريزي يعدّهم عشرًا، وهم: الخمسة الأولى والخمسة الأخرى.
وانفرد ابن خلدون بذكر علقمة بن عبده في السبعة، لكنه لم يعين معلقته[8].

الانتحال في المعلقات

إن اللغة العربية مع إختلافها وتعدد أسلوبها إنما ترجع إلى لغتين أصلًا: لغة الشمال ولغة الجنوب، وبين اللغتين بون بعيد في الإعراب والضمائر وأحوال الإشتقاق والتصريف، حتى قال أبو عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"، فالحميريون هم الذين كانوا في الجنوب، والعدنانيون كانوا في الشمال، فانقسمت العربية مع لهجاتها  إلى الجنوب والشمال، وهذا الإختلاف هو الذي كان بينًا، ولكن هناك قبائل أخرى التي كانت لها لهجات خاصة، وأكثر القبائل كانت مختلفة في لهجاتها عن الأخرى.
وهذا كله مما قد أجمعت الرواة والأدباء والباحثون عليه، ولكن السوال القائم هنا أن قصائد المعلقات كلها لم يظهر فيها أيّ إختلاف في اللغة، ولا في اللهجة، مع أن شعراء المعلقات ليسوا من قبيلة واحدة، فامرؤ القيس من كندة أي من قحطان، و زهير وعنترة ولبيد كل منهم من قيس، ثم عمرو بن كلثوم وطرفة وحارث بن حلزة هم من ربيعة، فكيف يمكن أن تتحد لغاتهم ولهجاتهم في هذه القصائد؟ حتى البحر العروضي، وقواعد القافية، والألفاظ المستعملة، والمذهب الشعري كلها كيف يمكن أن يكون مطابقًا وموافقًا مع أخرى؟
فأوّل من أقام هذا التشكيك هو المستشرق الألماني تيودور نولدكه سنة 1864م، وبعد ذلك لا يزال المستشرقون  يترددون في قبول هذه الأشعار ويتشككون فيها، وإن صفحنا النظر عن المستشرقين فأول مرة ذكر هذا السوال هو مصطفى صادق  الرافعي، وعرض هذه القضية في كتابه "تاريخ آداب العرب"، ولكنه ما تعرض فيه عرضا كاملًا، فجاء طه حسين، وتصدى لهذه القضية شديدا وأثار ضجة كثيرة حتى إنّه قد إتّهم بوضع كلّ هذه القصائد ونسبها إلى غير شعراءها، فقال في كتابه "في الشعر الجاهلي": "إما أن نومن بأنه لم يكن هناك إختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي؛ وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر من هذه القبائل، وإنما حمل عليها حملًا بعد الإسلام، ونحن من الثانية أميل منا إلى الأولى"[9].
ومن قبل قد ورد الشك في صحة نسبة هذه القصائد إلى أصحابها المعروفة على بعض أئمة الشعراء الأولين من ناحية أخرى، فقال ابن السلام الجمحي:
"فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر سعرشعراءهم وماذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعراءهم، ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار[10]"
فمن الرواة الذين أتهموا بالإنتحال في هذه القصائد هم: أبوعمر بن العلاء، وحماد الراوية، وخلف الأحمر، ومحمد بن السائب الكلبي، والمفضل الضبي[11].
 ولكنا نقول: إن التشكيك في صحة نسبة هذه القصائد إلى شعراءها ليس بصحيح؛ لأن الناحل إنما يستطيع أن ينحل بيتًا وبيتين، أو قصيدة وقصيدتين، ولكنه لا يستطيع أن يخلق شاعرًا ولا أن يتلبس بشاعر، وإذا نفرض أن إستطاع التلبس بشخصية شاعر واحد فهل يستطيع أن يتلبس بشخصيات مشاهير الشعراء أمثال امرؤ القيس وطرفة وعنترة والاعشى معًا؟
ثم نرى أن كل قصيدة من المعلقات توافق مع طبيعة صاحبها؛ فالضياع السلوكي والتشرد واضح في معلقة امرئ القيس، بينما النفس الوجودي والشعور بتفاهة الحياة موجود عند طرفة، والإفتخار والانفة والعزة موجودة في معلقة عمرو بن كلثوم، وملامح الشجاعة والفروسية توجد في معلقة عنترة، والحكمة وروح التسامح متواجدة في معلقة زهير.

مكانة المعلقات في الأدب العربي وميزاتها

المعلقات هي أشهر شعراء الجاهلين وأعظمها شأنًا وأعلاها منزلة في أدبهم وتاريخهم، وإنها التركيبة الشعرية الإبداعية التى جَسَّدت حضور النموذج الأصلى للشاعر فى مجاليه الدينى والدنيوى، ثم إنها تتميز بموضوعاتها المتنوعة وأسلوبها القوي، وتعد هذه القصائد على اختلاف تسمياتها من روائع الشعر العربي القديم ، وتظهر في هذه القصائد عدة من الأمور الأدبية المهمة، فمنها:

من حيث بلاغتها

·       جودة الصياغـة
·       حسن العبارة
·       جمال الأسلوب
·        تدفق المعاني
·        قوة السَّبـك
·       الطـول

من حيث معانيها:

·       أنها معان واضحة لا إبهام فيها و لا التعميق و الالتواء و لا رمز يأخذ الشاعر فيها عفو الخواطر.
·       أنها معان محدودة بحدود البيئة التى كان العربي يتلقب فيها.
·       أن معانى الشعر كانت تعبيرًا عن حياة الشاعر و حياة قبيلته.

من حيث ألفاظها:

فإن ألفاظ الشاعر الجاهلي كانت ترق و تصعب و تجفوا بحسب حالته من البداوة و الحضارة و بحسب طبيعته وحالته النفسية.

من حيث تركيبها:

الشعر الجاهلي كانت موظفة لخدمة المعنى تقديمًا و تأخيرًا، إيجازًا أو إطالةً، ومن النادر جدّا أن نجد في كلامهم تركيبا مختلًّا أو معقدًا.

من حيث خيالها:

و أما الخيال فإنه خيال مستمد من بيئة العربي في الجاهلية مناسبًا لها، فهو خيال ينحو منحى الواقعة و الصدق، و يبتعد عن الإسرا ف و الكذب.

من حيث موضوعاتها:

وأما بناء القصيدة الجاهلية فقد مضت القصيدة على منهج يجمع بين عدة أغراض في القصيدة الواحدة، يبدؤها الشاعر بالغزل أو النّسب، ثمّ ينتقل إلى وصف النّاقة، ثمّ إلى وصف الرّحلة، ثمّ إلى الغرض الأساسي للقصيدة من مدح أو حماسة أو غيره من أغراض الشّعر.
فلكل قصيدة أسلوبها الذي تنفرد به من حيث الدلالة، والتعبير، والمضمون، والصور الشعرية، وإذا شئنا من حيث فضاؤها الشّعري  ومناخها الفنّي ، مع أنّها تشترك في الأغلب بخصائص موسيقية شعرية عامّة ، تتجلّى بنضج نظامها العروضي المتقن ، الملتزم بالقافية الموحدة والوزن الواحد.
فهذه هي الداعيات التي أدت العرب إلى أن ينزلوا هذه القصائد بالمكانة التى أنزلتها بها واختصوها بها دون سواها من قصائد الجاهلية.



[1] المعجم الوسيط: ع ل ق.
[2] فروخ، تاريخ الأدب العربي، 1/75.
[3] جرجي زيدان، تاريخ الأدب  العربي، 1/92.
[4] ص: 53.
[5] جرجي زيدان، تاريخ الأدب  العربي، 1/92.
[6] شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، 1/140.
[7] الزيات، تاريخ الأدب العربي، 1/34.
[8] جرجي زيدان، تاريخ الأدب العربي، 1/91.
[9] طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص: 20.
[10] عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، 1/86.
[11] شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، 1/148.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق